فصل: (فَصْلٌ): (شُرُوطُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ، حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ. وَاشْتِقَاقُهَا: مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ، وَقِيلَ: لِجَمْعِهَا الْجَمَاعَاتِ، وَقِيلَ: لِجَمْعِ طِينِ آدَمَ فِيهَا. وَقِيلَ: «لِأَنَّ آدَمَ جُمِعَ فِيهَا خَلْقُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ جُمِعَ مَعَ حَوَّاءَ فِي الْأَرْضِ فِيهَا، وَفِيهِ خَبَرٌ مَرْفُوعٌ، وَقِيلَ: لِمَا جُمِعَ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ. قِيلَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَاسْمُهُ الْقَدِيمُ: يَوْمُ الْعُرُوبَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَهِيَ (أَفْضَلُ مِنْ الظُّهْرِ)، أَيْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِهَا مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعٍ، قَالَهُ فِي الْإِنْصَافِ. (وَفُرِضَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ)، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أُذِنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَجْمَعَ بِمَكَّةَ، فَكَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَانْظُرْ إلَى الْيَوْمِ الَّذِي تَجْهَرُ فِيهِ الْيَهُودُ بِالزَّبُورِ لِسَبْتِهِمْ، فَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، فَإِذَا مَالَ النَّهَارُ عَنْ شَطْرِهِ عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِرَكْعَتَيْنِ». فَأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَجَمَعَ عِنْدَ الزَّوَالِ مِنْ الظُّهْرِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ: أَنَّ أَسْعَدَ جَمَعَ النَّاسَ، فَإِنَّ مُصْعَبًا كَانَ نَزِيلَهُمْ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ وَيُقَرِّبُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُقْرِيَ. فَأَسْعَدُ دَعَاهُمْ، وَمُصْعَبُ صَلَّى بِهِمْ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمُعَةٌ بِجُوَاثَى: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ».
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (فُعِلَتْ بِمَكَّةَ عَلَى صِفَةِ الْجَوَازِ، وَفُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ)؛ لِأَنَّ سُورَةَ الْجُمُعَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فُعِلَتْ بِمَكَّةَ، أَيْ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ، أَيْ: فُعِلَتْ الْجُمُعَةُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْوُجُوبِ، إذْ آيَةُ الْجُمُعَةِ بَلْ سُورَتُهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، (وَهِيَ صَلَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ) لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ الظُّهْرِ (لَا ظُهْرَ مَقْصُورَةً، فَلَا تَجُوزُ أَرْبَعًا)، لِمَا يَأْتِي أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا أَكْثَرَ مِنْهُمَا. (وَلَا تَنْعَقِدُ) الْجُمُعَةُ (بِنِيَّتِهَا لِظُهْرٍ) مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَعَبْدٍ وَمُسَافِرٍ، لِجَوَازِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ. (وَلَا تُقْصَرُ) الظُّهْرُ (خَلْفَهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ، (بَلْ إنْ أَدْرَكَ) مِنْهَا (رَكْعَةً، نَوَى جُمُعَةً)، وَأَتَمَّهَا وَسَلَّمَ، (وَإِلَّا) يُدْرِكُ مِنْهَا رَكْعَةً، بِأَنْ أَدْرَكَ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، (فـَ) يَنْوِي الظُّهْرَ، وَيُصَلِّيهَا (ظُهْرًا تَامَّةً)، وَلَا يَقْصُرُهَا، لِمَا تَقَدَّمَ. (وَتَصِحُّ) صَلَاةُ الْجُمُعَةِ (قَبْلَ الزَّوَالِ)، وَيَأْتِي. (وَلَا يَؤُمُّ مَنْ قَلَّدَهَا)، أَيْ: قَلَّدَهُ الْإِمَامُ إمَامَةَ الْجُمُعَةِ (فِي غَيْرِهَا) مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَيْ: لَا يَسْتَفِيدُ ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ الْإِمَامِ، لَا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْإِمَامَةُ، إذَا قَامَتْ الصَّلَوَاتُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ. وَلَا لِمَنْ قُلِّدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمُعَةِ بِالتَّقْلِيدِ، لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْخَمْسِ لَهَا، وَلَا مَنْ قُلِّدَ أَحَدَهُمَا أَنْ يَؤُمَّ فِي عِيدٍ وَكُسُوفٍ بِهَذَا التَّقْلِيدِ؛ لِعَدَمِ شُمُولِ وِلَايَتِهِ لِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُقَلِّدَ جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ، فَتَدْخُلَ الْمَذْكُورَاتُ فِي عُمُومِهَا؛ لِلْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ. (وَلَا تُجْمَعُ) جُمُعَةٌ إلَى عَصْرٍ وَلَا غَيْرِهَا (حَيْثُ أُبِيحَ الْجَمْعُ)، لِعَدَمِ وُرُودِهِ.
(وَ) صَلَاةُ الْجُمُعَةِ (فَرْضُ الْوَقْتِ)، أَيْ: وَقْتِهَا، (فَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ أَهْلُ بَلَدٍ، تَلْزَمُهُمْ) الْجُمُعَةُ بِأَنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ فَأَكْثَرَ (مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ، (لَمْ تَصِحَّ) ظُهْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا مَا لَمْ يُخَاطَبُوا بِهِ، وَتَرَكُوا مَا خُوطِبُوا بِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّوْا الْعَصْرَ مَكَانَ الظُّهْرِ. (وَيَتَّجِهُ: إلَّا إنْ أَيِسَ) مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَهَا (مِنْ فِعْلِهَا) فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُ جُمُعَةٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَتَصِحُّ الظُّهْرُ مِنْهُ حِينَئِذٍ لِلْعُذْرِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَتُتْرَكُ)، أَيْ: تُؤَخَّرُ (فَجْرٌ فَائِتَةٌ) وَغَيْرُهَا مِثْلُهَا (لِخَوْفِ فَوْتِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ. (وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (إذَا فَاتَتْ)؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْضَى. (وَتَجِبُ) الْجُمُعَةُ (عَيْنًا عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ) حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْحُضُورِ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ (مُسْلِمٍ) لَا كَافِرٍ وَلَوْ مُرْتَدًّا، (مُكَلَّفٍ)، فَلَا تَجِبُ عَلَى مَجْنُونٍ إجْمَاعًا، وَلَا عَلَى صَبِيٍّ، لِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ مَرْفُوعًا: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» رَوَاه أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: طَارِقٌ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ. (حُرٍّ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكُ الْمَنْفَعَةِ، مَحْبُوسٌ عَلَى سَيِّدِهِ، أَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ بِالدَّيْنِ. (لَا عُذْرَ لَهُ) مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِهَا، وَتَقَدَّمَتْ فِي بَابِهَا. فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، سَقَطَ عَنْهُ الْحُضُورُ لَا الْوُجُوبُ. (مُسْتَوْطِنٍ بِبِنَاءٍ) مُعْتَادًا (وَلَوْ مِنْ قَصَبٍ) لَا يَرْتَحِلُ عَنْهُ صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، (وَلَوْ تَفَرَّقَ) الْبِنَاءُ (وَشَمِلَهُ اسْمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ) كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ (فَوْقَ فَرَاسِخَ) نَصًّا، (أَوْ تَفَرَّقَ) تَفَرُّقًا (كَثِيرًا).
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: سَوَاءٌ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بُنْيَانُهُ مُتَّصِلًا أَوْ مُتَفَرِّقًا فَإِذَا شَمِلَهُ اسْمٌ وَاحِدٌ، أَيْ: لِأَنَّهُ بَلَدٌ وَاحِدٌ، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، (خِلَافًا لَهُ)، أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ حَيْثُ قَيَّدَ التَّفَرُّقَ بِالْيَسِيرِ. وَإِنْ تَفَرَّقَ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ، لَمْ تَصِحَّ فِيهَا، صَحَّحَهُ فِي الْمُبْدِعِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهَا مَا يَسْكُنُهُ أَرْبَعُونَ، فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ، وَيَتْبَعُهُمْ الْبَاقُونَ. وَرَبْضُ الْبَلَدِ، وَهُوَ: مَا حَوْلَهَا، لَهُ حُكْمُهُ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، إذْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ بَعْضِ الْبُنْيَانِ بِبَعْضٍ (إنْ بَلَغُوا)، أَيْ: أَهْلُ الْقَرْيَةِ (أَرْبَعِينَ) مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا. (أَوْ)، أَيْ: وَتَلْزَمُ الْجُمُعَةُ مُسْتَوْطِنِي (قَرْيَةٍ خَرَابًا عَزَمُوا عَلَى إصْلَاحِهَا وَالْإِقَامَةِ بِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً) حَيْثُ بَلَغُوا الْعَدَدَ لِاسْتِيطَانِهِمْ بِهَا قَبْلَ إصْلَاحِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانُوا مُسْتَوْطِنِينَ، وَانْهَدَمَتْ دُورُهُمْ، وَأَرَادُوا إصْلَاحَهَا.
(وَ) تَجِبُ الْجُمُعَةُ أَيْضًا (عَلَى خَارِجٍ عَنْ بَلَدٍ تُقَامُ بِهِ) الْجُمُعَةُ (وَ) الْحَالُ أَنَّ (بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْجِدِهِ)، أَيْ: مَسْجِدِ التَّجْمِيعِ مِنْ بَلَدٍ (وَقْتَ فِعْلِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (فَرْسَخٌ) نَصًّا تَقْرِيبًا (فَأَقَلَّ) مِنْ ذَلِكَ، (كَمَنْ بِقُرَى صَغِيرَةٍ) لَا يَبْلُغُ عَدَدُ كُلِّ قَرْيَةٍ أَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تُقَامُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ.
(وَ) كَمَنْ بِـ (خِيَامٍ) جَمْعُ: خَيْمَةٍ، وَهُوَ: بَيْتٌ تَبْنِيهِ الْعَرَبُ مِنْ عِيدَانِ الشَّجَرِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: لَا تَكُونُ الْخَيْمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ ثِيَابٍ، بَلْ مِنْ أَرْبَعَةِ عِيدَانِ، وَتُسَقَّفُ بِالثُّمَامِ، وَخَيَّمْت بِالْمَكَانِ، بِالتَّشْدِيدِ: أَقَمْتَ فِيهِ. (وَمُسَافِرٍ لَا يَقْصُرُ) بِأَنْ كَانَ سَفَرُهُ دُونَ الْمَسَافَةِ، أَوْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ، (فَتَلْزَمُهُمْ)، أَيْ: الْمَذْكُورِينَ مِنْ سُكَّانِ قُرَى صَغِيرَةٍ أَوْ خِيَامٍ وَنَحْوِهَا، كَمَنْ بِبُيُوتِ الشَّعْرِ وَمُسَافِرِينَ، لَا يَقْصُرُونَ (بِغَيْرِهِمْ)؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ كَأَهْلِ الْمِصْرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» رَوَاه أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَلَفْظُهُ «إنَّمَا الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ الْجُمُعَةَ»، وَالْعِبْرَةُ بِسَمَاعِهِ مِنْ الْمَنَارَةِ، لَا بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ نَصًّا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ سَمَاعِ النِّدَاءِ غَيْرَ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِمْ الْأَصَمُّ وَثَقِيلُ السَّمْعِ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ، فَيَخْتَصُّ بِسَمَاعِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، اُعْتُبِرَ بِمَظِنَّتِهِ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْمَعُ فِيهِ النِّدَاءُ غَالِبًا إذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ صِيتًا وَالرِّيَاحُ سَاكِنَةٌ، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةٌ، وَالْعَوَارِضُ مُنْتَفِيَةٌ، وَهُوَ فَرْسَخٌ. فَلَوْ سَمِعَهُ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ فَوْقِ فَرْسَخٍ لِعُلُوِّ مَكَانِهَا، أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ لِمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَبَلٍ، أَوْ كَانَ فِي انْخِفَاضٍ لَمْ تَجِبْ فِي الْأُولَى، وَوَجَبَتْ فِيمَا عَدَاهَا اعْتِبَارًا بِالْمَظِنَّةِ. (وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ)؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْجُمُعَةَ فِيهِ، مَعَ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ. وَكَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، لَا تَلْزَمُهُ بِغَيْرِهِ- نَصَّ عَلَيْهِ- فَلَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ مَا يَمْنَعُ الْقَصْرَ لِشُغْلٍ أَوْ عِلْمٍ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَنْوِ اسْتِيطَانًا لَزِمَتْهُ بِغَيْرِهِ، لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ (وَلَا) تَجِبُ أَيْضًا عَلَى (مَنْ هُوَ خَارِجُ الْبَلَدِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَقْتَ فِعْلِهَا فَوْقَ فَرْسَخٍ)، لِمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا) تَجِبُ (عَلَى عَبْدٍ)، سَوَاءٌ كَانَ مُكَاتَبًا، أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُعَلِّقًا عِتْقَهُ بِصِفَةٍ قَبْلَ وُجُودِهَا، (وَ) لَا عَلَى (مُبَعَّضٍ مُطْلَقًا)، أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ وَالْجُمُعَةُ فِي نَوْبَتِهِ، أَوْ لَا.
(وَ) لَا عَلَى (امْرَأَةٍ، وَ) لَا عَلَى (خُنْثَى) مُشْكِلٍ، لِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. وَالْخُنْثَى لَمْ تَتَحَقَّقْ ذُكُورِيَّتُهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ حُضُورُهَا احْتِيَاطًا. (وَمَنْ حَضَرَهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (مِنْهُمْ)، أَيْ: مِنْ مُسَافِرٍ وَعَبْدٍ وَمُبَعَّضٍ وَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى، (أَجْزَأَتْهُ) عَنْ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْجُمُعَةِ عَنْهُمْ تَخْفِيفٌ، فَإِذَا صَلَّاهَا، فَكَالْمَرِيضِ تَكَلَّفَ الْمَشَقَّةَ. (وَلَمْ تَنْعَقِدْ) الْجُمُعَةُ (بِهِ)، فَلَا يُحْسَبُ مِنْ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا، وَإِنَّمَا صَحَّتْ مِنْهُ تَبَعًا. (وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا)؛ لِئَلَّا يَصِيرَ التَّابِعُ مَتْبُوعًا.
فَائِدَةٌ:
مَنْ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهَا إلَّا بَعْدَ إحْرَامِ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ فَلَا يَتَقَدَّمُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا (مَنْ لَزِمَتْهُ) الْجُمُعَةُ (بِغَيْرِهِ) كَمُسَافِرٍ أَقَامَ لِطَلَبِ عِلْمٍ أَوْ تِجَارَةٍ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِهَا أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ، لِمَا تَقَدَّمَ. (وَتَجِبُ) الْجُمُعَةُ (عَلَى مَرِيضٍ وَمَعْذُورٍ) بِشَغْلٍ أَوْ عُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكُهَا إذَا (حَضَرَهَا، وَتَنْعَقِدُ بِهِ)، وَجَازَ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ عِنْدَ الْحُضُورِ لِلْمَشَقَّةِ فَإِذَا تَكَلَّفَهَا وَحَضَرَ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ كَمَرِيضٍ بِالْمَسْجِدِ. (وَلَا تَصِحُّ) صَلَاةُ (ظُهْرِ) يَوْمِ الْجُمُعَةِ (مِمَّنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُ جُمُعَةٍ) بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (قَبْلَ فَرَاغِهَا يَقِينًا)، فَلَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فَرَاغِ مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَوْ بَعْدَهُ، لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضُ الْوَقْتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ، فَيُعِيدُهَا ظُهْرًا إنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ سَعَى إلَيْهَا، وَإِلَّا انْتَظَرَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ انْقِضَاءَهَا لَكِنْ لَوْ أَخَّرَ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ تَأْخِيرًا مُنْكَرًا فَلِلْغَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرًا وَتُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ، جَزَمَ بِهِ الْمَجْدُ. (وَتَصِحُّ) الظُّهْرُ (مِنْ نَحْوِ مَعْذُورٍ) كَخَائِفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ قَبْلَ تَجْمِيعِ إمَامٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُهُ وَقَدْ أَدَّاهُ. (وَإِنْ كَانَ تَأْخِيرَ) الظُّهْرِ، إلَى أَنْ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ (أَفْضَلُ)، فَإِنَّهُ قَدْ زَالَ عُذْرُهُ، فَتَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، لَكِنْ مَنْ دَامَ عُذْرَهُ كَالْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى فَالتَّقْدِيمُ فِي حَقِّهِمَا أَفْضَلُ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ مَنْ أَطْلَقَهُ. قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ. (وَلَوْ زَالَ عُذْرُهُ قَبْلَهُ)، أَيْ: قَبْلَ تَجْمِيعِ الْإِمَامِ كَمَغْصُوبٍ حُجَّ عَنْهُ ثُمَّ عُوفِيَ. (فَإِنْ حَضَرَهَا)، أَيْ: حَضَرَ الْمَعْذُورُ الْجُمُعَةَ (بَعْدَ) أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ لِلْعُذْرِ (كَانَتْ) الْجُمُعَةُ (نَفْلًا)؛ لِأَنَّ الْأُولَى أَسْقَطَتْ فَرْضَهُ. (وَيَتَّجِهُ: وَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ) الْجُمُعَةُ، أَيْ: لَا يُحْسَبُ مِنْ الْعَدَدِ، لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَ(لَا) يَسْقُطُ فَرْضُ (صَبِيٍّ بَلَغَ) بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ، وَلَوْ بَعْدَ تَجْمِيعِ الْإِمَامِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلَاةَ ظُهْرٍ بِبُلُوغِهِ فِي وَقْتِهَا، أَوْ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَقَدْ صَارَتْ فَرْضًا. (وَحُضُورُهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (لِمَعْذُورٍ) تَسْقُطُ عَنْهُ أَفْضَلُ، (وَ) حُضُورُهَا (لِمَنْ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَعَبْدٍ بِإِذْنِ) سَيِّدِهِ (وَصَبِيٍّ أَفْضَلُ) خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. (وَنُدِبَ تَصَدُّقٌ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِهِ) عَلَى التَّخْيِيرِ (لِتَارِكِهَا) أَيْ: الْجُمُعَةِ (بِلَا عُذْرٍ) لِلْخَبَرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ وَرَدَّ تَصْحِيحَ الْحَاكِمِ لَهُ. (وَلَا يُكْرَهُ لِمَنْ فَاتَتْهُ) الْجُمُعَةُ صَلَاةُ الظُّهْرِ جَمَاعَةً. (أَوْ)، أَيْ: وَلَا يُكْرَهُ لِـ (مَنْ لَمْ تَلْزَمْهُ) الْجُمُعَةُ كَالْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ (صَلَاةُ الظُّهْرِ جَمَاعَةً مَعَ أَمْنِ فِتْنَةٍ)، لِحَدِيثِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَفِعْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا لَوْ تَعَدَّدَتْ الْجُمُعَةُ وَقُلْنَا يُصَلُّونَ الظُّهْرَ فَلَا بَأْسَ بِالْجَمَاعَةِ، بَلْ مُقْتَضَى مَا سَبَقَ وُجُوبُهَا، لَكِنْ إنْ خَافَ فِتْنَتَهُ أَخْفَاهَا، وَصَلَّى حَيْثُ يَأْمَنُ ذَلِكَ (وَحَرُمَ سَفَرُ مَنْ تَلْزَمُهُ) الْجُمُعَةُ بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (بَعْدَ زَوَالِ) الشَّمْسِ فِي يَوْمِهَا. (وَيَتَّجِهُ: أَوْ)، أَيْ: وَحَرُمَ سَفَرُهُ إذَا أُرِيدَ فِعْلُهَا (قَبْلَهُ)، أَيْ: قَبْلَ الزَّوَالِ (بَعْدَ نِدَائِهَا) الثَّانِي قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ حَرَامٌ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ إذَا نُودِيَ لَهَا؛ لِوُجُوبِ حُضُورِهَا عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (حَتَّى يُصَلِّيَ)، الْجُمُعَةَ؛ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي ذِمَّتِهِ بِدُخُولِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ تَفْوِيتُهَا بِالسَّفَرِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ لِإِمْكَانِ فِعْلِهَا حَالَ السَّفَرِ، (إنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ رُفْقَتِهِ) بِسَفَرٍ مُبَاحٍ، فَإِنْ خَافَهُ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُهَا، وَجَازَ لَهُ السَّفَرُ. (وَكُرْهِ) السَّفَرُ (قَبْلَهُ)، أَيْ: قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ ابْنِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «لَا تَحْبِسُ الْجُمُعَةُ عَنْ سَفَرٍ» وَكَمَا لَوْ سَافَرَ مِنْ اللَّيْلِ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالزَّوَالِ، وَمَا قَبْلَهُ وَقْتُ رُخْصَةٍ. وَإِنَّمَا كُرِهَ السَّفَرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، لِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ جُمُعَةٍ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا يُصْحَبَ فِي سَفَرِهِ وَأَنْ لَا يُعَانَ عَلَى حَاجَتِهِ» وَقَالَ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ: قَلَّمَا خَرَجَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا رَأَى مَا يَكْرَهُ، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (مَا لَمْ يَأْتِ) مُسَافِرٌ (بِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (فِي طَرِيقِهِ فِيهِمَا)، أَيْ: فِيمَا إذَا سَافَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَهُ، فَإِنْ أَتَى بِهَا فِي طَرِيقِهِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ يُكْرَهْ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ.

.(فَصْلٌ): [شُرُوطُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ]:

(وَلِصِحَّتِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (شُرُوطٌ) أَرْبَعَةٌ، (لَيْسَ مِنْهَا)، أَيْ: الشُّرُوطِ: (إذْنُ إمَامٍ، وَ) لَا (مِصْرُ)، فَتَصِحُّ فِي الْقُرَى (كَعِيدٍ وَكُسُوفٍ وَاسْتِسْقَاءٍ)؛ «لِأَنَّ عَلِيًّا صَلَّى بِالنَّاسِ، وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، وَصَوَّبَهُ عُثْمَانُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ (أَحَدُهَا) ا أَيْ: شُرُوطُ الْجُمُعَةِ: (الْوَقْتُ)؛ لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ، فَاعْتُبِرَ لَهَا الْوَقْتُ كَبَقِيَّةِ الْمَفْرُوضَاتِ، (وَهُوَ)، أَيْ: وَقْتُ الْجُمُعَةِ (مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ عِيدٍ)، نَصَّ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانَ السُّلَمِيُّ قَالَ: «شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ: قَدْ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ: زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا. (لِآخِرِ وَقْتِ ظُهْرٍ) إلْحَاقًا بِهَا لِوُقُوعِهَا مَوْضِعِهَا. (وَتَلْزَمُ) الْجُمُعَةُ (بِزَوَالٍ) لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتُ جَوَازٍ، (وَ) فِعْلُهَا (بَعْدَهُ)، أَيْ: الزَّوَالِ (أَفْضَلُ) خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ؛ وَلِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا فِيهِ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ، وَالْأَوْلَى فِعْلُهَا عَقِبَ الزَّوَالِ صَيْفًا وَشِتَاءً (وَلَا تَسْقُطُ) الْجُمُعَةُ (بِشَكٍّ فِي خُرُوجِهِ)، أَيْ: الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَالْوُجُوبُ مُحَقَّقٌ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ فَعَلُوهَا، (فَإِنْ تَحَقَّقَ) خُرُوجُهُ (قَبْلَ التَّحْرِيمَةِ صَلَّوْا ظُهْرًا)؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى، (وَإِلَّا)، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ خُرُوجُهُ قَبْلَ التَّحْرِيمَةِ، (فـَ) يُصَلُّونَ (جُمُعَةً) نَصًّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، وَهِيَ تُدْرَكُ بِالتَّحْرِيمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ عَلِمُوا إحْرَامَهُمْ بَعْدَ الْوَقْتِ، قَضَوْا ظُهْرًا لِبُطْلَانِ جُمُعَتِهِمْ. (الثَّانِي: اسْتِيطَانُ أَرْبَعِينَ) رَجُلًا (وَلَوْ بِالْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ فِي نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكُنَّا أَرْبَعِينَ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهَا صُلِّيَتْ بِدُونِ ذَلِكَ، وَالْخَضِمَاتُ: بِخَاءٍ وَضَادٍ مُعْجَمَتَيْنِ: بَطْنٌ مِنْ الْأَرْضِ يَمْكُثُ فِيهِ الْمَاءُ مُدَّةً، فَإِذَا نَضَبَ يَصِيرُ الْكَلَأَ. (بَقَرِيَّةٍ) مَبْنِيَّةٍ بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهَا، مُقِيمِينَ بِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِهَا الْمِصْرُ، وَأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْ أَهْلِ الْخُرْسِ وَنَحْوِهَا اسْتِقْلَالًا، وَأَمَّا تَبَعًا، فَتَصِحُّ، بَلْ تَجِبُ كَمَا تَقَدَّمَ. (اسْتِيطَانُ إقَامَةٍ لَا يَظْعَنُونَ)، أَيْ: يَرْحَلُونَ (عَنْهَا صَيْفًا وَ) لَا (شِتَاءً)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِيطَانُ، (فَلَا) تَجِبُ. وَلَا تَصِحُّ (جُمُعَةٌ بِبَلْدَةٍ يَسْكُنُهَا أَهْلُهَا بَعْضَ السَّنَةِ دُونَ بَعْضٍ)، لِعَدَمِ الْإِقَامَةِ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَكَذَا لَوْ دَخَلَ قَوْمٌ بَلَدًا لَا سَاكِنَ بِهِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ سَنَةً، فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدِ مَا يَمْنَعُ الْقَصْرَ، وَأَهْلُهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَلَا جُمُعَةَ أَيْضًا. (وَلَا) تَجِبُ الْجُمُعَةُ (بِغَيْرِ بِنَاءٍ، كَبُيُوتِ شَعْرٍ وَخِيَامٍ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُقْصَدْ لِلِاسْتِيطَانِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهَا. (وَتَصِحُّ) الْجُمُعَةُ (فِيمَا قَارَبَ الْبُنْيَانَ مِنْ الصَّحْرَاءِ) وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا الْبُنْيَانُ، لِصَلَاةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فِي نَقِيعِ الْخَضِمَاتِ، وَهُوَ عَلَى مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إذَا صَلَّى بِالصَّحْرَاءِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ.
وَ(لَا) تَصِحُّ الْجُمُعَةُ (فِيمَا بَعُدَ) عَنْ الْبُنْيَانِ، (وَيَتَّجِهُ: عُرْفًا)، قَالَ فِي الْمُبْدِعِ لِشَبَهِهِمْ حِينَئِذٍ بِالْمُسَافِرِينَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (وَلَا يُتَمَّمُ عَدَدُ) الْجُمُعَةِ (مِنْ بَلَدَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ) فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دُونَ أَرْبَعِينَ، لِفَقْدِ شَرْطِهَا. (وَلَا يَصِحُّ تَجَمُّعُ أَهْلِ بَلَدٍ كَامِلٍ) فِيهِ الْعَدَدُ (فِي) بَلَدٍ (نَاقِصٍ) فِيهِ الْعَدَدُ، فَيَلْزَمُ التَّجْمِيعُ فِي الْكَامِلِ، لِئَلَّا يَصِيرَ التَّابِعُ مَتْبُوعًا، (وَالْأَوْلَى مَعَ تَتِمَّةِ الْعَدَدِ) فِي بَلَدَيْنِ فَأَكْثَرَ مُتَقَارِبَةً (تَجْمِيعُ كُلِّ قَوْمٍ وَحْدَهُمْ) فِي بَلَدِهِمْ، إظْهَارًا لِشِعَارِ الْإِسْلَامِ. (الثَّالِثُ حُضُورُهُ)، أَيْ: الْأَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا، الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ (وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَجَمًا، أَوْ خُرْسًا أَوْ صُمًّا سِوَى الْإِمَامِ) وَأَمَّا لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَا تَصِحُّ، لِفَوَاتِ الْخُطْبَةِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَيُصَلُّونَ ظُهْرًا (وَيَتَّجِهُ: أَوْ) كَانَ (بِهِ)، أَيْ: الْإِمَامِ صَمَمٌ، وَصَلَّى (فِي) جَمَاعَةٍ (صُمٍّ) كُلِّهِمْ، أَيْ: فَتَصِحُّ جُمُعَتُهُمْ، إذْ لَوْلَا الصَّمَمُ لَمَا فَاتَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ شَيْءٌ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ ضَعِيفٌ، لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ كَلَامِهِمْ، وَمُنَاقَضَتِهِ لِمَا بَعْدَهُ. (وَإِنْ قَرُبَ أَصَمُّ) مِنْ الْخَطِيبِ (وَبَعُدَ سَمِيعٌ) مِنْهُ، (وَلَمْ يَسْمَعْ) كَلَامَهُ وَلَا هَمْهَمَتَهُ، (لَمْ تَصِحَّ)، لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. (وَإِنْ نَقَصُوا)، أَيْ: الْأَرْبَعُونَ (قَبْلَ إتْمَامِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ، (اسْتَأْنَفُوا ظُهْرًا) نَصَّا؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ، فَاعْتُبِرَ فِي جَمِيعِهَا كَالطَّهَارَةِ، وَالْمَسْبُوقُ وَإِنَّمَا صَحَّتْ مِنْهُ تَبَعًا كَصِحَّتِهَا مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ الْخُطْبَةَ، (إنْ لَمْ تُمْكِنْ إعَادَتُهَا) جُمُعَةً بِشُرُوطِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَتْ، وَجَبَتْ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ الْوَقْتِ (وَمَرَّ) فِي بَابِ النِّيَّةِ: (لَوْ فَارَقَ) الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ (لِعُذْرٍ بِثَانِيَةِ) جُمُعَةٍ، (فَنَقَصُوا) عَنْ الْأَرْبَعِينَ، لَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُفَارِقِ. (وَذَكَرَهُ) هُنَاكَ اتِّجَاهًا، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ. (وَإِنْ بَقِيَ الْعَدَدُ)، أَيْ: الْأَرْبَعُونَ، وَبَعْدَ فَرَاغِ الْخُطْبَةِ حَضَرَ عَشَرَةٌ، فَأَحْرَمَ بِالْجَمِيعِ، ثُمَّ انْفَضَّ عَشَرَةٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ) كَانَ الْبَاقُونَ (مِمَّنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ وَلَحِقُوا بِهِمْ)، أَيْ: بِمَنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ (قَبْلَ نَقْصِهِمْ) عَنْ الْأَرْبَعِينَ. (وَيَتَّجِهُ): وَكَانَ لَحْقُهُمْ بِهِمْ (فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ) الْجُمُعَةُ، بِأَنْ كَانَ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ- وَهُوَ مُتَّجِهٌ- (أَتَمُّوا جُمُعَةً)، لِوُجُودِ الشُّرُوطِ كَبَقَاءِ الْعَدَدِ مِنْ السَّامِعِينَ، وَإِنْ لَحِقُوا بَعْدَ النَّقْصِ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِئْنَافُ الْجُمُعَةِ، وَإِلَّا صَلَّوْا ظُهْرًا. (وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ وَحْدَهُ)، أَيْ: الْمَأْمُومِينَ اعْتِبَارَ (الْعَدَدِ، فَنَقَصَ) الْعَدَدُ، (لَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمَّهُمْ)، لِاعْتِقَادِهِ الْبُطْلَانَ، (وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَحَدَهُمْ) لِيُصَلِّيَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ. (وَبِالْعَكْسِ)، بِأَنْ رَأَى الْمَأْمُومُونَ الْعَدَدَ وَحْدَهُمْ (لَا تَلْزَمُ) الْجُمُعَةُ (وَاحِدًا مِنْهُمَا)، أَيْ: لَا مِنْ الْإِمَامِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُومِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا. (وَلَوْ أَمَرَهُ)، أَيْ: إمَامَ الْجُمُعَةِ (السُّلْطَانُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا بِأَرْبَعِينَ، لَمْ يَجُزْ) لَهُ مِنْ حَيْثُ الْوِلَايَةُ أَنْ يُصَلِّيَ (بِأَقَلَّ) مِنْ أَرْبَعِينَ. (وَلَوْ لَمْ يَرَ الْعَدَدَ)، بِأَنْ اعْتَقَدَ صِحَّتَهَا بِدُونِهَا (وَلَا) يَمْلِكُ (أَنْ يَسْتَخْلِفَ) لِقِصَرِ وِلَايَتِهِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ الزَّائِدِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ. (وَبِالْعَكْسِ)، بِأَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِأَرْبَعِينَ (الْوِلَايَةُ بَاطِلَةٌ)، لِتَعَذُّرِهَا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ. (وَلَوْ لَمْ يَرَهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةَ، أَيْ: وُجُوبَهَا (قَوْمٌ بِوَطَنٍ مَسْكُونٍ) لِنَقْصِهِمْ عَنْ الْأَرْبَعِينَ مَثَلًا، (فَلِلْمُحْتَسِبِ أَمْرُهُمْ بِهَا بِرَأْيِهِ)، لِئَلَّا يَظُنَّ الصَّغِيرُ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَحْمَدُ: يُصَلِّيهَا مَعَ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، مَعَ اعْتِبَارِهِ عَدَالَةَ الْإِمَامِ. (وَمَنْ فِي وَقْتِهَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ (أَحْرَمَ) بِهَا (وَأَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا أَتَمَّ جُمُعَةً). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» رَوَاه الْأَثْرَمُ.
(وَ) إنْ أَحْرَمَ (بَعْدَهُ)، أَيْ: بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، (وَلَوْ) أَدْرَكَ (رَكْعَتَيْنِ)، فَيُتِمُّهَا ظُهْرًا (أَوْ) أَحْرَمَ (فِيهِ)، أَيْ: الْوَقْتِ، فَأَدْرَكَ (أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَ) يُتِمُّهَا (ظُهْرًا) لِمَفْهُومِ الْخَبَرِ السَّابِقِ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى. (إنْ نَوَاهُ) عِنْدَ إحْرَامِهِ (بِوَقْتِهِ)، أَيْ: الظُّهْرِ، (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الظُّهْرِ، أَوْ دَخَلَ وَلَمْ يَنْوِهِ بِأَنْ نَوَى جُمُعَةً، (فـَ) يُتِمُّ صَلَاتَهُ (نَفْلًا)، أَمَّا فِي الْأُولَى، فَكَمَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ، فَبَانَ قَبْلَ وَقْتِهِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَلِحَدِيثِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ وَلِأَنَّ الظُّهْرَ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ ابْتِدَاءً، فَكَذَا اسْتِدَامَةٌ، وَكَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ. (وَمَنْ) أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِالْجُمُعَةِ وَ(رَكَعَ مَعَهُ، ثُمَّ زُحِمَ عَنْ سُجُودٍ) بِأَرْضٍ، (لَزِمَهُ) السُّجُودُ مَعَ إمَامِهِ وَلَوْ (عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ أَوْ رِجْلِهِ)؛ لِقَوْلِ عُمَرَ «إذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ، فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَسَعِيدٌ، وَكَالْمَرِيضِ يَأْتِي بِمَا يُمْكِنُهُ، وَلَا يَصِحُّ.
وَ(لَا) يَجُوزُ (وَضْعُ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ عَلَى ظَهْرِ أَوْ رِجْلِ غَيْرِهِ، وَيَحْرُمُ) لِلْإِيذَاءِ، بِخِلَافِ الْجَبْهَةِ. (فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ) السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ أَوْ رِجْلِهِ، (فَبِزَوَالِ زِحَامٍ) يَسْجُدُ بِالْأَرْضِ وَيَتْبَعُ إمَامَهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فِي صَلَاةِ عُسْفَانَ لِلْعُذْرِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا»، وَالْمُفَارَقَةُ وَقَعَتْ صُورَةً لَا حُكْمًا، فَلَمْ تُؤَثِّرْ. (مَا لَمْ يَخَفْ) بِسُجُودِهِ بِالْأَرْضِ بَعْدَ زَوَالِ الزِّحَامِ (فَوْتَ) رَكْعَةٍ (ثَانِيَةٍ) مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ خَافَهُ، (فـَ) إنَّهُ (يُتَابِعُهُ)، أَيْ: الْإِمَامَ (فِيهَا)، أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وُجُوبًا) كَالْمَسْبُوقِ، (وَتَصِيرُ) ثَانِيَةُ الْإِمَامِ (أُولَاهُ)، أَيْ: الْمَأْمُومِ فَيَبْنِي عَلَيْهَا (وَيُتِمُّهَا جُمُعَةً)؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً، وَتَقَدَّمَ لَوْ زَالَ عُذْرُهُ وَقَدْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، تَابَعَهُ، وَتَتِمُّ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمُعَةَ. (فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ) الْمَأْمُومُ الْمَزْحُومُ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ خَوْفِ فَوْتِهَا (عَالِمًا تَحْرِيمَهُ، بَطَلَتْ) صَلَاتُهُ، لِتَرْكِهِ وَاجِبَ الْمُتَابَعَةِ بِلَا عُذْرٍ.
(وَ) إنْ كَانَ عَدَمُ مُتَابَعَتِهِ (جَهْلًا) مِنْهُ (فَسَجَدَ) سَجْدَتَيْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، (وَأَدْرَكَهُ)، أَيْ: الْإِمَامَ (بِتَشَهُّدٍ، أَتَى بِرَكْعَةٍ) ثَانِيَةٍ (بَعْدَ سَلَامِهِ)، أَيْ: الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِسُجُودٍ مُعْتَدٍّ بِهِ لِلْعُذْرِ، (وَتَمَّتْ جُمُعَتُهُ)؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَهُوَ رَكْعَةٌ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَهَذَا الْمَذْهَبُ، أَيْ: لِأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ إلَّا بَعْدَ رَكْعَةٍ، وَسُجُودُهُ لِنَفْسِهِ فِي حُكْمِ مَا أَتَى بِهِ مَعَ إمَامِهِ، لِبَقَائِهِ عَلَى نِيَّةِ الِائْتِمَامِ، كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَبَقَ فِي الْخَوْفِ (وَ) إنْ لَمْ يُدْرِكْ بَعْدَ أَنْ سَجَدَ لِنَفْسِهِ إلَّا بَعْدَ (سَلَامِ) الْإِمَام، (اسْتَأْنَفَ ظُهْرًا) سَوَاءٌ زُحِمَ عَنْ سُجُودِهَا أَوْ رُكُوعِهَا أَوْ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ. (وَكَذَا)، أَيْ: كَالتَّخَلُّفِ عَنْ الْإِمَامِ لِزِحَامٍ (لَوْ تَخَلَّفَ) عَنْهُ (لِنَحْوِ مَرَضٍ) كَغَفْلَةٍ (وَنَوْمٍ وَسَهْوٍ) وَجَهِلَ وُجُوبَ مُتَابَعَةٍ. وَإِنْ زُحِمَ عَنْ جُلُوسِ تَشَهُّدٍ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَأْتِي بِهِ قَائِمًا وَيُجْزِئُهُ، وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: الْأَوْلَى انْتِظَارُهُ زَوَالَ الزِّحَامِ، قَالَهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى. (وَإِنْ خَافَ) مَزْحُومٌ (فَوْتَهُ)، أَيْ: فَوْتَ إدْرَاكِ الثَّانِيَةِ إنْ سَجَدَ لِنَفْسِهِ (فَتَابَعَهَا)، أَيْ: تَابَعَ إمَامَهُ فِيهَا، (فَطُولُ) الْإِمَامِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ سَجَدَ لِنَفْسِهِ لَلَحِقَهُ، (أَوْ لَمْ يَخَفْ) مَزْحُومٌ فَوْتَ الثَّانِيَةِ. (فَسَجَدَ) لِنَفْسِهِ، فَبَادَرَ الْإِمَامُ فِي الْحَالِ، (فَرَكَعَ إمَامٌ) فَلَمْ يُدْرِكْهُ، (لَمْ يَضُرَّ فِيهِمَا)؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ظَنَّا مِنْهُ أَنَّهُ يُدْرِكُهُ فَلَمْ يُدْرِكْهُ، وَالظَّنُّ يَجْرِي مَجْرَى الْيَقِينِ فِيمَا يَتَعَذَّرُ فِيهِ. (وَمَرَّ ذِكْرُ الرَّكْعَةِ الْمُلَفَّقَةِ) فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ مَا إذَا زَالَ عُذْرُ مَنْ أَدْرَكَ رُكُوعَ الْأُولَى وَقَدْ رَفَعَ إمَامَهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، تَابَعَهُ فِي السُّجُودِ، فَتَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رَكْعَتَيْ إمَامِهِ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمُعَةَ (الرَّابِعُ: تَقَدُّمُ خُطْبَتَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالذِّكْرُ: هُوَ الْخُطْبَةُ، وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَيْهِ دَلِيلُ وُجُوبِهِ. وَلِمُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «كَان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَعَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ مِنْ أَجْلِ الْخُطْبَةِ وَاشْتُرِطَ تَقْدِيمُهُمَا عَلَى الصَّلَاةِ، لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ. أَوْ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِمَعَايِشِهِمْ، فَقُدِّمَا لِأَجْلِ التَّدَارُكِ. (بَدَلُ رَكْعَتَيْنِ) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَ(لَا) يُقَالُ: إنَّهُمَا بَدَلُ رَكْعَتَيْنِ (مِنْ الظُّهْرِ)؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ الظُّهْرِ، بَلْ الظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا إذَا فَاتَتْ، (وَقِيلَ لَا بَدَلِيَّةَ)، أَيْ: لَيْسَتْ الْخُطْبَتَانِ بَدَلَ رَكْعَتَيْنِ، (وَهُوَ أَظْهَرُ).
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَهَاتَانِ الْخُطْبَتَانِ بَدَلٌ عَنْ رَكْعَتَيْنِ، قُلْتُ: هَذَا إنْ قُلْنَا: إنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَامَّةٌ فَلَا، انْتَهَى.
(وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَتِهِمَا)، أَيْ: خُطْبَتَيْنِ (مِنْ صَحِيفَةٍ)، وَلَوْ مِمَّنْ يُحْسِنُهُمَا، كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مِنْ مُصْحَفٍ، وَلِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. (وَشَرْطُهُمَا)، أَيْ: الْخُطْبَتَيْنِ: (وَقْتٌ)، وَالْمُرَادُ بِالشَّرْطِ هُنَا: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا. (وَنِيَّتُهُ): لِحَدِيثِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (وَوُقُوعُهَا حَضَرًا)؛ لِأَنَّ الِاسْتِيطَانَ شَرْطٌ لِلْخُطْبَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَ أَرْبَعُونَ مُسَافِرِينَ فِي سَفِينَةٍ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ خَطَبَهُمْ أَحَدُهُمْ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ، وَوَصَلُوا الْقَرْيَةَ عِنْدَ فَرَاغِ الْخُطْبَةِ، اسْتَأْنَفَهَا بِهِمْ ظُهْرًا. (وَحُضُورُ الْعَدَدِ) الْمُعْتَبَرِ لِلْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَأَكْثَرُ لِسَمَاعِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ اُشْتُرِطَ لِلصَّلَاةِ، فَاشْتُرِطَ لَهُ الْعَدَدُ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ (وَكَوْنُهُمَا)، أَيْ: الْخُطْبَتَيْنِ (مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهِمَا)، أَيْ: الْجُمُعَةِ: فَلَا تَصِحُّ خُطْبَةُ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ كَعَبْدٍ وَمُسَافِرٍ، وَلَوْ أَقَامَ لِعِلْمٍ أَوْ شُغْلٍ بِلَا اسْتِيطَانٍ. لِمَا تَقَدَّمَ. (وَأَرْكَانُهُمَا)، أَيْ الْخُطْبَتَيْنِ: (حَمْدُ اللَّهِ) تَعَالَى (بِلَفْظِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ)، فَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ، بِلَا خِلَافٍ، قَالَهُ فِي النُّكَتِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ: فَهُوَ أَجْذَمُ» رَوَاه أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مُرْسَلًا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَشَهَّدَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ» رَوَاه أَبُو دَاوُد. (وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، افْتَقَرَتْ إلَى ذِكْرِ رَسُولِهِ، كَالْأَذَانِ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ الصَّلَاةِ، أَوْ يَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَأَوْجَبَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ إيمَانٌ بِهِ، وَالصَّلَاةُ دُعَاءٌ لَهُ، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ. (وَلَا يَجِبُ مَعَهَا) أَيْ: مَعَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَلَامٌ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ. (وَقِرَاءَةُ آيَةٍ كَامِلَةٍ). لِقَوْلِ جَابِرٍ «كَان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ آيَاتٍ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ» رَوَاه مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُمَا أُقِيمَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ. وَالْخُطْبَةُ فَرْضٌ. فَوَجَبَتْ فِيهِمَا الْقِرَاءَةُ كَالصَّلَاةِ. وَلَا تَتَعَيَّنُ آيَةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: يَقْرَأُ مَا شَاءَ وَلَا يُجْزِئُ بَعْضُ آيَةٍ. لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهَا حُكْمٌ بِدَلِيلِ عَدَمِ مَنْعِ الْجُنُبِ مِنْهُ، (وَلَوْ) كَانَ وَقْتَ قِرَاءَتِهَا (جُنُبًا، وَيَحْرُمُ) عَلَيْهِ ذَلِكَ. (وَلَا بَأْسَ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا)، أَيْ: الْآيَةِ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ فِي الْخُطْبَةِ. (وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ) كَأَسْعَدَ أَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ (كَوْنَ الْآيَةِ مُسْتَقِلَّةً بِمَعْنًى أَوْ حُكْمٍ، فَلَا يُجْزِئُ) قِرَاءَةُ: ( {ثُمَّ نَظَرَ}، أَوْ: {مُدْهَامَّتَانِ}) لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِمَا. (وَيَتَّجِهُ: وَلَا تَحْرُمُ) قِرَاءَتُهُمَا (لِجُنُبٍ) كَآيَةِ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِرْجَاعِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ) تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ مِنْ الْخُطْبَةِ (بِنَحْوِ: اتَّقُوا اللَّهَ، أَوْ: أَطِيعُوهُ) قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: فَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا، وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَوْ قَرَأَ مَا تَضَمَّنَ الْحَمْدَ وَالْمَوْعِظَةَ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى عَلَى الصَّحِيحِ. (كُلُّ ذَلِكَ) مِنْ الشُّرُوطِ مَطْلُوبٌ (فِي كُلِّ خُطْبَةٍ) مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ. (وَمُوَالَاةُ جَمِيعِ الْخُطْبَتَيْنِ مَعَ الصَّلَاةِ)، فَتُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُهُ، وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». (وَالْجَهْرُ بِهِمَا)، أَيْ: الْخُطْبَتَيْنِ (بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ) لِلْجُمُعَةِ، (حَيْثُ لَا مَانِعَ) لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ (مِنْ نَحْوِ نَوْمٍ) كَغَفْلَةٍ. أَوْ صَمَمِ بَعْضِهِمْ (وَمَطَرٍ) وَرَعْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا، لِخَفْضِ صَوْتِهِ أَوْ بُعْدِهِمْ عَنْهُ وَنَحْوِهِ، لَمْ تَصِحَّ، لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. (وَكَوْنُهُمَا)، أَيْ: الْخُطْبَتَيْنِ (بِالْعَرَبِيَّةِ) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَالْقِرَاءَةِ (وَاخْتَارَ فِي الْإِقْنَاعِ: يُتَرْجِمُ عَاجِزٌ عَنْهَا)، أَيْ: الْعَرَبِيَّةِ بِلُغَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ، وَحَمْدُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ دَلِيلُ النُّبُوَّةِ وَعَلَامَةُ الرِّسَالَةِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالْعَجَمِيَّةِ. (عَمَّا عَدَا الْقِرَاءَةِ)، فَلَا تُجْزِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَهُوَ)، أَيْ: اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْإِقْنَاعِ (حَسَنٌ) مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ، (فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا)، أَيْ: عَنْ الْقِرَاءَةِ، (وَجَبَ ذِكْرُ بَدَلِهَا) قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ. (وَسُنَّ بُدَاءَةُ) خَطِيبٍ (بِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ بِالثَّنَاءِ) عَلَيْهِ (وَهُوَ)، أَيْ: الثَّنَاءُ (مُسْتَحَبٌّ) عَلَى الْمَذْهَبِ، (ثُمَّ بِالصَّلَاةِ) عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ بِالْمَوْعِظَةِ) ثُمَّ يَقْرَأُ آيَةً. (فَإِنْ نَكَّسَ) بِأَنْ بَدَأَ بِالْمَوْعِظَةِ أَوْ غَيْرِهَا، (أَجْزَأَهُ)، جَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ. (وَإِنْ انْفَضُّوا)، أَيْ: الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ أَوْ بَعْضُهُمْ (عَنْهُ) وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ، (سَكَتَ)، لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. (فَإِنْ عَادُوا قَرِيبًا عُرْفًا، بَنَى) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ الْيَسِيرَ لَا يَضُرُّ، (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَعُودُوا قَرِيبًا (أَوْ فَاتَ رُكْنٌ مِنْهَا)، أَيْ: مِنْ الْخُطْبَةِ (اسْتَأْنَفَ) الْخُطْبَةَ، لِفَوَاتِ الْمُوَالَاةِ لَكِنْ لَوْ فَاتَ رُكْنٌ، وَلَمْ يَطُلْ التَّفْرِيقُ، كَفَاهُ إعَادَتُهُ. (وَتَبْطُلُ) الْخُطْبَةُ (بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ) فِي أَثْنَائِهَا (وَلَوْ يَسِيرًا) كَالْأَذَانِ وَأَوْلَى. (وَسُنَّ لَهُمَا)، أَيْ: الْخُطْبَتَيْنِ (طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ وَجَنَابَةٍ)، وَتُجْزِئُ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذِكْرٌ تَقَدَّمَ الصَّلَاةَ، أَشْبَهَ الْأَذَانَ وَنَصُّهُ: تُجْزِئُ خُطْبَةُ الْجُنُبِ، وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ كَانَ بِالْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ لُبْثِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِوَاجِبِ الْعِبَادَةِ، كَمَنْ صَلَّى وَمَعَهُ دِرْهَمٌ غَصْبٌ.
(وَ) سُنَّ لَهُمَا (سَتْرُ) الـ (عَوْرَةِ وَاجْتِنَابُ) الـ (نَّجَاسَةِ) كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ وَأَوْلَى.
(وَ) سُنَّ (وُقُوعُهُمَا مَعَ صَلَاةٍ مِنْ وَاحِدٍ)، فَلَوْ خَطَبَ وَاحِدٌ وَصَلَّى آخَرُ: أَجْزَأَ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْخُطْبَةَ، لِانْفِصَالِ الصَّلَاةِ عَنْهَا، (فَإِنْ صَلَّى غَيْرُهُ)، أَيْ: غَيْرُ الْخَطِيبِ، (سُنَّ حُضُورُهُ الْخُطْبَةَ) خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ. (وَسُنَّ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى مِنْبَرٍ)، لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهَا إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمِلَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، فَكَانَ يَرْتَقِي عَلَيْهِ وَكَانَ اتِّخَاذُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: سَنَةُ ثَمَانٍ، وَكَانَ ثَلَاثَ دَرَجٍ. وَسُمِّيَ مِنْبَرًا لِارْتِفَاعِهِ، مِنْ النَّبْرِ، وَهُوَ: الِارْتِفَاعُ، وَاِتِّخَاذُهُ سُنَّةً مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، قَالَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَيَكُونُ صُعُودُهُ فِيهِ عَلَى تُؤَدَةٍ إلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي السَّطْحَ، (أَوْ) عَلَى (مَوْضِعٍ عَالٍ) إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْبَرًا. وَيَكُونُ الْمِنْبَرُ أَوْ الْمَوْضِعُ الْعَالِي (عَنْ يَمِينِ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ) بِالْمِحْرَابِ؛ لِأَنَّ مِنْبَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا كَانَ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَلِي مَكَانَ الِاسْتِرَاحَةِ، ثُمَّ وَقَفَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الثَّانِيَةِ، ثُمَّ عُمَرُ عَلَى الْأُولَى تَأَدُّبًا، ثُمَّ وَقَفَ عُثْمَانُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عَلِيٌّ مَوْقِفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ زَمَنُ مُعَاوِيَةَ قَلَعَهُ مَرْوَانُ وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجٍ، فَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَرْتَقُونَ سِتًّا يَقِفُونَ مَكَانَ عُمَرَ، أَيْ: عَلَى السَّابِعَةِ، وَلَا يَتَجَاوَزُونَ ذَلِكَ تَأَدُّبًا. (وَإِنْ وَقَفَ بِالْأَرْضِ فَ) يَقِفُ (عَنْ يَسَارِهِمْ)، أَيْ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، بِخِلَافِ الْمِنْبَرِ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي.
(وَ) سُنَّ (سَلَامُهُ)، أَيْ: الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ (إذَا خَرَجَ) عَلَيْهِمْ، (أَوْ)، أَيْ: وَكَذَا إذَا (أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ)، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ» وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ: لِأَنَّهُ اسْتِقْبَالٌ بَعْدَ اسْتِدْبَارٍ، أَشْبَهَ مَنْ فَارَقَ قَوْمًا ثُمَّ عَادَ إلَيْهِمْ، وَعَكْسُهُ الْمُؤَذِّنُ، قَالَهُ الْمَجْدُ. (وَرَدُّهُ)، أَيْ: رَدُّ هَذَا السَّلَامِ وَكُلُّ سَلَامٍ مَشْرُوعٌ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) عَلَى الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ.
(وَ) سُنَّ (جُلُوسُهُ) عَلَى الْمِنْبَرِ (حَتَّى يُؤَذَّنَ)، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «كَان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ مُخْتَصِرًا» رَوَاه أَبُو دَاوُد، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَرِيحُ بِذَلِكَ مِنْ تَعَبِ الصُّعُودِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَلَامِ التَّمَكُّنَ التَّامَّ.
(وَ) سُنَّ جُلُوسُهُ (بَيْنَهُمَا)، أَيْ: بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً جِدًّا، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «كَان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (قَالَ جَمَاعَةٌ)، مِنْهُمْ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: (بِقَدْرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، فَإِنْ أَبَى) أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمَا، (أَوْ خَطَبَ جَالِسًا) لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (فَصَلَ بِسَكْتَةٍ). وَلَا يَجِبُ الْجُلُوسُ؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ سَرَدُوا الْخُطْبَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَلْسَةِ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ.
(وَ) سُنَّ (أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا) اقْتِدَاءً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الِاسْتِقْبَالُ، فَلَمْ يَجِبْ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ (مُعْتَمِدًا عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ أَوْ عَصًى بِإِحْدَى يَدَيْهِ).
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ بِالْيُسْرَى (وَ) يَدِهِ (الْأُخْرَى بِحَرْفِ مِنْبَرٍ، أَوْ يُرْسِلُهُمَا)، لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ قَالَ: «وَفَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْنَا مَعَهُ الْجُمُعَةَ، فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ أَوْ عَصًى» مُخْتَصَرٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ قَامَ بِهِ. (وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَيْءٍ، أَمْسَكَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ أَرْسَلَهُمَا) عِنْدَ جَنْبَيْهِ وَسَكَّنَهُمَا، فَلَا يُحَرِّكُهُمَا، وَلَا يَرْفَعُهُمَا فِي دُعَائِهِ حَالَ الْخُطْبَةِ (وَسُنَّ أَنْ يَقْصِدَ) الْخَطِيبُ (تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا)، لَفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِأَنَّ فِي الْتِفَاتِهِ عَنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ إعْرَاضًا عَنْهُ.
قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا الْتَفَتَ أَوْ اسْتَدْبَرَ النَّاسَ أَنَّهُ يُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، صَرَّحُوا بِهِ فِي الِاسْتِدْبَارِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.
(وَ) سُنَّ (قَصْرُهُمَا)، أَيْ: الْخُطْبَتَيْنِ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمَّارٍ مَرْفُوعًا «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ».
(وَ) سُنَّ كَوْنُ خُطْبَةٍ (ثَانِيَةٍ أَقْصَرَ) مِنْ الْأُولَى كَالْإِقَامَةِ مَعَ الْأَذَانِ.
(وَ) سُنَّ (رَفْعُ صَوْتِهِ) فِي الْخُطْبَةِ (حَسَبَ طَاقَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ (وَيُعَرِّبُهُمَا بِلَا تَمْطِيطٍ) كَالْأَذَانِ. (وَيُتَّعَظُ بِمَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ)، لِيَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِوَعْظِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ قَوْمٌ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقِيلَ لِي: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ».
(وَ) سُنَّ كَوْنُهُ حَالَ الْخُطْبَةِ (مُسْتَقْبِلًا لَهُمْ)، أَيْ: الْمَأْمُومِينَ (وَيَسْتَقْبِلُونَهُ) وَيَنْحَرِفُونَ إلَيْهِ وَيَتَرَبَّعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ كَالْإِجْمَاعِ، (فَإِنْ اسْتَدْبَرَهُمْ فِيهَا)، أَيْ: فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، (كُرِهَ)، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. (كـَ) مَا يُكْرَهُ لَهُ (رَفْعُ يَدَيْهِ بِدُعَاءٍ حَالَ خُطْبَةٍ)، قَالَ الْمَجْدُ: هُوَ بِدْعَةٌ، وِفَاقًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. (وَدُعَاؤُهُ عَقِبَ صُعُودِهِ لَا أَصْلَ لَهُ) وَكَذَا مَا يَقُولُهُ مَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ مِنْ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ. (وَسُنَّ دُعَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا بَأْسَ) بِالدُّعَاءِ (لِمُعَيَّنٍ كَالسُّلْطَانِ، وَسُنَّ دُعَاءٌ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ).
قَالَ أَحْمَدُ، أَوْ غَيْرُهُ: لَوْ كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِإِمَامٍ عَادِلٍ؛ وَلِأَنَّ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يَدْعُو فِي خُطْبَتِهِ لِعُمَرَ. وَرَوَى الْبَزَّارُ: أَرْفَعُ النَّاسِ دَرَجَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ إمَامٌ عَادِلٌ قَالَ أَحْمَدُ: إنِّي لَأَدْعُو لَهُ بِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ. (وَإِذَا فَرَغَتْ الْخُطْبَةُ نَزَلَ مُسْرِعًا) مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ تَقْبُحُ، بِخِلَافِ صُعُودِهِ، فَيَكُونُ عَلَى تُؤَدَةٍ (عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) كَمَا يَقُومُ إلَيْهَا مَنْ لَيْسَ بِخَطِيبٍ إذَنْ.